العرب والعربية
25/09/2017

كيف توحدت دول العالم العربي في لغة واحدة. بل لماذا سميت دول عربية؟

عادل البشراوي

قبل الدخول في مناقشة موضوع العنوان اسمحوا لي بتناول حالة مشابهة لحالة اللغة العربية تسهل علينا مهمة النقاش وذلك بالتطرق لبعض الظروف التاريخية والثقافية التي فارقت بين مصير الحالتين.

المثال الذي أود طرحه هو اللغة اللاتينية القديمة. فهذه اللغة التي بدأت جذورها في شبه الجزيرة الإيطالية في الألف الثانية للميلاد والتي تعد أحد أهم اللغات الهندوأوروبية. تبلورت هذه اللغة في صورتها الكلاسيكية إبان الإمبراطورية الرومانية قبيل دعوة المسيح بقرنين من الزمان. وهناك حيث توفرت لها التقنينات المنهجية التي جعلتها ملائمة لتكون لغة الإمبراطورية.

اللغات اللاتينية في أوروبا اليوم هي الإيطالية والإسبانية والبرتغالية والفرنسية والرومانية وبعض اللغات القليلة الإنتشار كالسردينية.

طبعا هذا بالإضافة إلى استخدام هذه اللغات في مناطق متوزعة حول العالم كأمريكا اللاتينية وفي أماكن متفرقة في آسيا وإفريقيا ولكن حديثي هنا عن أوروبا وليس في مستعمراتها التاريخية.

هذه كلها لغات كما قلنا تعود للغة أم هي اللاتينية القديمة.

اللافت في الأمر هو أن اللغات اللاتينية اليوم تستخدم من قبل شعوب يقطنون دولا متجاورة بشكل مباشر كإيطاليا وإسبانيا والبرتغال وفرنسا فلماذا أصبحت لغات مختلفة؟

وبسؤال أكثر وضوحا لماذا لم تسمى لاتينية ولكن بلهجات مختلفة كماهو حال العربية المتداولة في دول العالم العربي؟

من يحاول المقارنة بين المسافة الفاصلة بين مدريد وليزبن عاصمتي إسبانيا والبرتغال وبين المسافة الفاصلة بين المنامة والرباط عاصمتي البحرين والمغرب يحار في الأسباب التي أبقت اللغة واحدة في عاصمتي البحرين والمغرب برغم الستة آلاف كيلومترا الفاصلة بينهما بينما فرضت لغتين مختلفتين في عاصمتي إسبانيا والبرتغال وهما عاصمتان لدولتين تفصلهما حدود جغرافية واحدة.

إذا فماهي هذه الأسباب التي فرضت هذا الواقع العجيب؟

إجابة هذا السؤال سوف تسهل لي مهمة الإجابة على عنوان المقال واسمحوا لي بمناقشة الموضوع في البدايات.

كانت شعوب شبه الجزيرة العربية تتواصل بلهجات للغة أم اصطلح على تسميتها باللغة العربية. تبلورت هذه اللغة مع لهجاتها قبيل دعوة الإسلام بعدة قرون قد تصل في جذورها لماقبل هجرات قبائل الأزد اليمنية التي قيل أنها طرأت إثر تهدم سد مأرب الشهير.

ورغم تشكيكي في صحة الإدعاء الذي لا أراه إلا ضمن أسباب كثيرة قد يكون انهيار السد أقلها تأثيرا إلا أنني لا أنفي خبر الهجرة التي دفعت بقبائل الأزد للإنتشار شمالا وشرقا في شبه الجزيرة حتى استقرت بعض مكوناتها في بوادي وحواضر العراق والشام.

وقد تكون هذه الهجرات هي السبب في دفع قبائل عدنان إلى النزوح نحو إقليم البحرين القديم ليشكلون أخيرا مكونها الديموغرافي الأكبر.

لا أحد يستطيع الجزم بتاريخ محدد لهذه الهجرات فلو استطعنا الركون إلى خبر تسبب انهيار السد في بدء الهجرات لقلنا بأنها حدثت نهاية القرن السادس الميلادي وتحديدا عام ٥٧٥م. أي قرابة الخمسة وثلاثون سنة فقط قبل تاريخ نزول الوحي على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله.

وهو أمر لا نستطيع قبوله خصوصا مع علمنا باستقرار الأزد في حواضر العراق والشام بل وتمكنهم قبل هذا التاريخ بقرون من تأسيس ممالك كبرى هناك كالمناذرة والغساسنة.

إلا أننا ومن خلال علمنا بأن حادثة تصدع وانهيار السد لم تكن واحدة بل تكررت مرات فنستطيع تقبل أنها كانت واحدة من تلك المرات الأقدم.

رغم ذلك فإن قراءاتنا في التاريخ وفي شواهد الآركيولوجيا تشير إلى أسباب أكثر تأثيرا دفعت بقبائل شبه الجزيرة العربية إلى الهجرة شمالا أهمها ظاهرة التصحر الآخذة في التمدد منذ بداية حبس رياح المونسون المحيطية والمحملة بالأمطار بدء من الألف الرابعة قبل الميلاد. لكن هذا مبحث آخر لا أود التوسع فيه فدعونا نعود للعربية لغة شعوب شبه الجزيرة العربية.

لكي نتعرف أكثر على اللغة العربية يجب أن نعلم أنها واحدة ضمن لغات انبثقت من اللغة السامية القديمة. قليل من هذه اللغات لازالت باقية أما أكثرها فقد اندثر وانقطع أثره.

اللغات الباقية هي العربية والعبرية والأمهرية والسواحلية ولا أستبعد أن تكون الأمازيغية هي الأخرى سامية.

بينما اندثرت لغات عديدة نعلم منها الأكادية والبابلية والسريانية والكنعانية والآرامية والقبطية. علما بأن بعض هذه اللغات كالآرامية والقبطية لاتزال متداولة وإن بشكل محدود في بعض المدن والقرى الصغيرة في الشام بالنسبة للآرامية كمدينة معلولة وفي صعيد مصر بالنسبة للقبطية.

يقيني أن هذه اللغات وسواء منها الباقية أو المندثرة كلها بدأت كلهجات للغة السامية القديمة بدأت في التباعد إثر ظروف ثقافية وتجارية وسياسية إلى أن تشكلت بهيكليات لغوية جرتها شيئا فشيئا بعيدا عن قالبها السامي القديم فتبلورت أخيرا على هيئة لغات مختلفة.

واقع الأمر فإن هذا هو حال كل لغات العالم وماجرى على السامية القديمة جرى على الهندوأوروبية التي تفرعت للغات هندوإيرانية وأرمنية وسلافية وجرمانية ورومانسية لاتينية.

ما أود التشديد عليه وأنا أتناول هذا المجال الأنثروبولوجي المهم هو ضرورة أن نعي بأن العربية ليست إشارة لعرق بل هي هوية ثقافية. ومن يقول غير ذلك عليه أن يعي بأن شبه الجزيرة العربية لم تكن إلا مجرد معبرا لهجرات البشر منذ أول بروزهم عشرات بل مئات الآلاف من السنين وأن الحديث عن الأعراق الصافية ماهو إلا محض خيال.

إذا فشعوب وقبائل شبه الجزيرة العربية انتشروا في شبه الجزيرة وخارجها وأثروا وتأثروا بكل تلك الثقافات التي قابلوها في طريق هجرتهم وفي مستقراتهم الأخيرة في أرجاء شبه الجزيرة وخارجها. وهو أمر منسجم مع طبيعة البشر في تشكل ثقافاتهم وتأثرها بالأحتكاك بالثقافات أخرى.

إلا أنه ومع انتشار رسالة الإسلام طرأ على هذا الواقع أمر قلل من تأثيره فأرسى للغة العربية دعامات حصنتها ليس فقط عن الإندثار بل حتى عن التفتت.

هذه الدعامات تتمثل في توجه التزم به العربي المسلم في جعل لغة القرآن هي اللغة المرجع للغة التعليم وحافظت عليه الكيانات السياسية الحاكمة المختلفة في عموم العالم العربي عبر تاريخ الإسلام وحتى يومنا هذا.

فمهما اختلفت الثقافات ومهما واجهت الشعوب العربية من الضغوط تبقى لغة القرآن هي المرجع الذي يبقيهم ضمن حدود مباني اللغة العربية.

نعم هم يختلفون على مستوى اللهجات وقد يواجه شخص من منطقة الخليج العربي صعوبة في فهم لهجات المغرب العربي إلا أن الفارق بين اللهجتين لايكاد يقارن مع الفارق بين لغتي شخصين لاتينيين لايكاد يفصل بين مدينتيهما سوى بضعة مئات من الكيلومترات كما هو الحال في المثال الذي ضربناه في الأعلى عن أسبانيا والبرتغال.

أكبر دليل على هذا الواقع نراه في اللغة المالطية المستخدمة في جزيرة مالطا الإيطالية. فهذه اللغة في الأساس هي إحدى اللهجات العربية الشمال إفريقية. وقد تعربت إثر ضمها للممالك الإسلامية عبر القرون من التاسع وحتى الحادي عشر الميلادي. فكان أهلها يتحدثون العربية حالهم حال الليبيون والتونسيون الذين يبعدون عنهم جغرافيا مسافة أقل من ٣٠٠ كيلومترا.

ولكنهم وكأثر للغزو النورماندي الذي تم في القرن الحادي عشر الميلادي تأسس لهم واقع سياسي وآيديولوجي جديد أفقد لغتهم تلك الحصانة العتيدة التي لاتزال متوفرة في أرجاء العالم العربي ولدى أقرب جيرانهم الليبيون والتونسيون. وأقصد بهذه الحصانة لغة التعليم التي هي لغة القرآن.

والأمر لاينطبق فقط على العرب المسلمين بل هو حال جميع المكونات العرقية والآيديولوجية في العالم العربي. فمسيحيو الشام والعراق ومصر وكذلك اليهود هناك وفي اليمن وجميع الفرق والأطياف التي تعيش تحت حكم الدولة العربية كانوا يتعاطون العربية في معاملاتهم الرسمية والتجارية وبحكم انخراطهم في أنظمة التعليم والجامعات فإنهم كانوا ضمن هذه الثقافة الموحدة.

هذا برغم بقائهم على ممارستهم لطقوسهم الدينية التي تحتم عليهم ممارستها بلغاتهم الأصلية.

السؤال الذي يجب طرحه هنا هو لماذا لم يوفر انتشار المسيحية ذات التأثير على مجمل البلدان المتنصرة. وبكلاك أوضح لماذا لم توحد المسيحية لغة أوروبا التي تنصرت بالكامل منذ القرن الحادي عشر الميلادي؟

رغم أن الأمر يحتاج لدراسات موسعة إلا أني وبتواضع أقول بأن بقاء تعلم لغة الكتاب المقدس مقتصر على النخبة وتحديدا في صفوف الرهبان منع لغة الكتاب المقدس التي بقيت تكتب باللاتينية القديمة لدى الكاثوليك وباللغة اليونانية لدى الأورثوزوكس من الإنتشار في أوساط العامة.

أضف إلى ذلك أنه بعد اعتماد قسطنطين الأول المسيحية دينا للإمبراطورية الرومانية في عشرينيات القرن الرابع الميلادي لم تمهل أوروبا سوى تسعة عقود بدأ بعدها مابات يعرف بعصور الظلام. وهي فترة مرت على أوروبا تكرس فيها نظام الإقطاع وانتشر الجهل والفقر واقتصر التعليم على المنتسبين للكنيسة.

وحيث أن التعاليم الكنسية لاتنص على ضرورة تعلم لغة الكتاب المقدس فقد ظل العوام في الأقطار الأوروبية يتحدثون بلغاتهم المختلفة فتجري عليهم حالات التأثر بالثقافات تماما كما كان الحال في العالم العربي قبل عصمة لغة القرآن.

بقي شأن مهم أود توضيحه في السياق. وهو أمر وجدته متكررا لدى الباحثون في لغة القرآن.

دائما ما أقرأ في نقاشاتهم أمورا حقيقة لا أستطيع تقبلها وهي في الغالب دليل جهل بأصل اللغات وتطورها عبر العصور.

أقرأ أحيانا كلاما لباحث يتحدث عن مفردات آرامية وسريانية وعبرية في القرآن فيجعل منها تضاربا مع تقرير القرآن بأنه أنزل بكلام عربي!!

يقابله آخر بالقول أن هذه المفردات هي عربية أصيلة ليبدأ بمنهجيته جدالا دونكيشوتيا لامبرر له.

حقيقة الأمر لا أفهم شيئا أسمه عربية أصيلة وبرأيي المتواضع فإن هذه العربية الأصيلة لاوجود لها.

هذه المنهجية تذكرني بذهاب البعض إلى أن أول من تحدث بالعربية هو آدم عليه السلام. وهو واقعا أمر معيب. لا يصح لنا وبين أيدينا علوما ومعارف أن يتشدق البعض منا بهذه الخرافات التي لانجد لها مبررا علميا يدعمها.

أما عن تلك المفردات القرآنية فهي بلاشك عربية ولكنها أيضا آرامية وهي أيضا سريانية وقد يصلح بعضها لأن يكون عبريا وأكاديا وفينيقيا وغيرها من اللغات التي تندرج ضمن اللغات السامية.

ما أقوله تحديدا هو مالمانع أن يكون هناك مشتركات بين هذه اللغات الواحدة الأصل؟

مالذي يمنع أن تحتفظ العربية بمفردة كانت موجودة في السامية القديمة؟ ومالذي يمنع أن تجد ذات المفردة طريقها إلى الآرامية أو العبرية أو السريانية أو الأمهرية؟

في الوقت الذي تتشارك السنسكريتية الهندية مع السلافية الصربية في بلاد البلقان الأوروبية في مفردات ورثتها عن الهندوأوروبية القديمة تعود إلى أكثر من خمسة آلاف سنة يخرج علينا من يجادل في وحدانية اللغة العربية وكأنها أنزلت فجأة مع الوحي القرآني مطلع القرن السابع الميلادي.
 
التعليقات 0
إضافة تعليق
مواضيع اخرى