من أقاصيص المدارس ( الأقصوصة الثانية)....فتحية القطري
27/11/2019

من أقاصيص المدارس ( الأقصوصة الثانية)

2- إني راحلة

كنت أراها كل يوم تمسك بيد الطفلة الصغيرة بيمناها وباليد الأخرى تمسك بحقيبتها المدرسية تدخل الفناء ثم تقف قبالتها بانحناءة تحتضنها وتلثم وجهها بالقبلات وبصوت هادئ ... رددي معي :

( اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ )
[البقرة - ٢٥٥]

تبتسم لها وتثني عليها لترديدها الآية ! تضمها إلى صدرها ثم تودعها ملوحة لها بيدها وهي خارجة .
تنطلق الصغيرة مبتهجة ؛لتنضم إلى زميلاتها في الصف الأول من المرحلة الابتدائية .

مشهد يتكرر كل يوم قلما تراه معلمة الصفوف الأولية مما أثار فضولها مرة من المرات وقبل أن تهم بالخروج بادرتها قائلة : الشبه بينكما واضح تماما ! أهي ابنتك ؟

نعم إنها ابنتي وحبيبة قلبي ولاء أصطحبها كل يوم إلى مدرستها أريدها أن تشعر باهتمامي وترتوي من نبض قلبي ومن قربي بجانبها وأن تشبع من حناني وحبي لها .

كلامها جعل المعلمة تتفرس في وجهها لترى شحوبا وإعياء شديدين لا يخفيان على أحد فملامحها تنطق بالألم .
سألتها : مابكِ ؟
أطلقت تنهيدة قائلة : إني راحلة عنها وعن أخيها الذي يصغرها .
داء عضال أنهك جسدي ولا يرجى شفاؤه هذا ما يؤكده الأطباء وما تفصح عنه حالتي .

بتأثر بادرتها المعلمة قائلة : لِمَ تقولين ذلك ؟ فالأمر لله هو من يقدر الحياة والأعمار بيده وحده .
ونعم بالله !
إنني أحيا على هذا الأمل ما بقي من عمري .
إنني أدرك بحق حاجة صغيرتي إلي في هذه الفترة من عمرها لذا أتحامل على نفسي وأصطحبها لكي أُشبع حاجتها .

أكبرتُ المعلمة في الأم جهدها المبذول كما لم تنسَ أن تمتدح حسن سلوك الإبنة وتهذيبها وذكائها ! مما كان يثلج صدرها ويرسم ابتسامة على قسمات وجهها .

كان المشهد اليومي المتكرر للأم يهز المشاعر ... خاصة بعد معرفة وضعها الصحي .

بعد فترة من الزمن رأت المعلمة الصغيرة قادمة إلى المدرسة بصحبة سيدة أخرى غير والدتها . ومن خلال السؤال عنها وعن أحوالها علمت بأن الأم طريحة الفراش لا تقوى على مرافقة ابنتها كما عودتها .

وما هي إلا أشهر قليلة حتى رحلت الأم صاحبة القلب الكبير تاركة طفليها في عهدة ورعاية من ينلن الحظوة لديها - الجدة والخالات - ليغدقن عليهما من العطف والحنان ما يحقق لهما الإستقرار النفسي ويعوضهما عن افتقاد الأم الراحلة التي كانت مثالا للعطاء السامي والتي بذلت نفسها ووقتها لإسعاد طفلتها .

كما سخر الله للصغيرة اليتيمة معلمات يراعين الله في يتمها ويدركن حاجتها إلى قلب أم ويد حانية تمسح على رأسها لتشعرها بالاهتمام والأمان فلم يألون جهدا في إبداء مشاعر الحنان والحب لها .

يا ترى هل ما يوليه الجميع لليتيم من الرعاية و الاهتمام وملء الفراغ الناشئ عن فقدان أحد الوالدين يغنيه ويكفيه ؟ أم يظل الشوق والحنين إلى الأبوين الراحلين لاينتهي ويبقى في ازدياد ؟

تقول المعلمة : بعد مضي عام على وفاة الأم كنت في حصة انتظار ... طلبت من صغيراتي أن تعبر كل واحدة منهن بالرسم عن أحب الأشياء إلى نفسها .
رحت بعدها أنظر إلى رسوماتهن وأبدي إعجابي بها استوقفني رسم إحداهن فأمعنت النظر في تأمله !
اعتصرت مشاعر الألم قلبي ! فلم يكن الرسم إلا قبرا نثرت حوله الورود والأزاهير وما كانت صاحبته إلا تلك الصغيرة ولاء .
 

التعليقات 0
إضافة تعليق
مواضيع اخرى