البشر والبطيخ !
30/10/2020

( البشر والبطيخ ! )

 بقلم الأستاذ / كمال بن علي آل محسن 

عندما نقلبُ صفحاتِ الزمنِ الماضي ، وتدورُ -كمسلسلٍ حلقاته مليئة بالتفاصيلِ والجزئياتِ الكبيرةِ منها والصغيرة وحتى الدقيقة والمتناهية في الدقة - في داخل عقولنا ، عندها تستحضرُ أذهاننا مشاركة مع أفئدتنا ومشاعرنا وأحكامنا أناسيًا كثيرين مروا بذاكرتنا ، وكانت لهم حصةٌ منها ومكان ، يتسعُ ويضيقُ بحسبِ حجمِ التأثيرِ الذي تركوه فينا . 

في ذلك الزمنِ كنّا نظنُ أنَّ كل مَن قابلناه في محطاتِ حياتنا وتعاملنا معه من بني البشر - سواءً عن قربٍ أو بعد ، ومهما كانت نوعُ العلاقةِ معه - بأننا عرفناه حق المعرفة وأنه كان بمثابةِ كتابٍ مفتوحٍ بالنسبةِ إلينا ، وقد تم تقييمُه والحكمُ عليه ، وحكمنا عليه هو الذي حدد علاقتنا به واستمراها معه ، ولكن هل كان حكمنا صحيحًا وتقييمنا عادلًا لأولئك الناس وفي ذلك الوقت ؟!
هو سؤالٌ كبيرٌ جدًّا ومتشعب ، وكل مفردةٍ منه تولِّدُ لدينا علامةَ استفهامٍ ، ولكي نجيبَ عن كل تلك العلاماتِ الممزوجةِ بعلاماتِ التأثرِ والتي لا تخلو من التعجبِ والدهشة ، نحتاجُ إلى أمورٍ كثيرةٍ بعضها مؤلمٌ وبعضها مفرح ، وبينَ الألمِ والفرحِ تنبثقُ إجاباتنا ، لنكتبها في صفحاتٍ متعددةٍ تفوقُ صفحاتِ ذكرياتنا ، هذا لو أردنا أنْ نكونَ منصفين مع كل أولئك الناسِ الذين كونّا علاقةً معهم !
إنّ مَن تنطبقُ عليهم صفاتُ البشريةِ هم كتلةٌ هائلةٌ من الأسرار ، وصندوق أسود مليء بالحكاياتِ والتعقيدات ، وعمق معتم لا يمكنُ سبر أغواره والوصول إليه ، وما سيطفو فوقَ السطحِ منه ما هو إلا فتات وضحالة من الحقائقِ التي عرفناها عنهم ؛ لذا فإن من المرجحِ ألّا تخلو أحكامنا عليهم من الضعفِ والخللِ وعدم الدقة ، والاستعجال والتسرع هما عاملان مضللان يقومان بعمليةِ تشويشٍ وإرباك ، وضبطهما يحتاجُ إلى هدوءٍ ورويةٍ وتبصرٍ ودراسة ؛ حتى نستطيعَ أنْ نفكَّ طلاسمَ ذلك الصندوق ونفهم لغته ، ومن ثم نصدر حكمنا بناءً على حقائقَ ثابتةٍ وراسخةٍ وصادقةٍ بعيدًا عن العواطفِ والميولِ التي تؤثر تأثيرًا سلبيًا على مجمل أحكامنا . 

معرفة حقيقة البشر ليست بالأمر الهين ، وأظنها من السهل الممتنع ، لأننا في كل موقف سنكتشفُ أمرًا ، وفِي كل حادثة سنعرفُ سرًّا ، وفِي كل مشكلة سيتشكلُ لدينا انطباعًا ؛ وهذا بدوره يغيرُ نظرتنا إلى البشر ، فمن المديحِ والثناءِ والإشادةِ إلى الذمِّ والانتقاصِ والثلب ، وهذا التضاد الواضح والبائن يؤكدُ على صعوبةِ الموضوعِ وتعسُّره ، إلا في حالاتٍ نادرة أخذت وقتًا زمنيًّا طويلًا ؛ فاكتسبت الفهم الصحيح والمعرفة الحقيقية لبعض البشر .

 ‏إننا نرى القشورَ بكل تفاصيلها ولكنها تبقى -كما هو معناها وحدودها - قشورًا ، أما الداخل واللب والعمق فيستعصي علينا رؤيته دفعة واحدة ، بل ترينا إياه الأيام والسنوات تدريجيا وببطءٍ شديد ، هذا إن سمح لنا الناس برؤيته ، وإلا ستبقى الحقيقةُ الواضحةُ اللائحة ، والتي نقتبسها من كلامِ الفيلسوفِ بنجامين فرانكلين عندما قال البشر والبطيخ من الصعب أن تعرف حقيقتهم . 

هل عرفت لماذا تبقى في حيرة من أمرك عندما تشتري البطيخ ؛ حتى تعود إلى منزلك وتكتشف الحقيقة ؟!


التعليقات 0
إضافة تعليق
مواضيع اخرى