وَجهٌ ووَجه
11/01/2021



عقيلة الربح

جلس والحيرة في وجهه بابتسامته العذبة وصفاء نفسه وكأنَّ بين أساريره ذاك النبض الملائكي الهادئ تتموج في روحه وهو يلتفت يمينًا ويسارًا يصافح هذا ويمزح مع ذاك يتحدث ويضحك ولكنَّ ثَمَّة شيئًا وراء ذاك القناع.

هو النصف الآخر من روحه الذي يلقي فيه كل اتساعات التَّلون التي تنطوي في لحظات أشبه ما يكون فيها بالسِّحر العميق والترصد من هنا وهناك.

نَظَرَ إلى حافة المرآة وهو يحدث نفسه: من أنا؟
ومن أكون بالنسبة لطرفي الآخر ؟

ردت عليه (المرآة): لمَ لا تتوسط في المنتصف الخاص بي لأصفكَ في وسط هذه القوقعة المحبوسة وأخبركَ من أنتْ؟
أنتَ في الجانب المقابل من الحياة.. أنتَ البسمة والأمل.. والهتافات المتلونة..أنتَ العبث والدخان المتصاعد.. أنتَ من ذُكر في القرآن الكريم بآية النفاق ! أنتَ الزبد الذي لاحدَّ له.. أنتَ ثمَّ أنتْ ... إلى أن تصل: أنتَ النصف الآخر من ذلك النبض المتلون في كنه جبَّةٍ عنوانها النفاق . يومًا وراء يوم لم يُكشف عن وجهكَ المشحون.. تبحث عن الماء لترتوي روحك فلا تجد شيئًا ولن تجده لترجع وتتعثر بأذيال الخيبة.
 

تركض وتتسارع نبضاتُكَ وتلهث ثم ما إنْ عدتَ حتى اكتشفت بأنَّ ما حولكَ سراب ونقيض تُعاود الكرة مرة بعد أخرى.. مَن حولكَ يعتقدون بأنكَ الوجهُ الملائكي المنزل من السماء على هيئة بشر وفي الحقيقة وجه آخر فيعرف النفاقُ بكَ؛ فأنتَ مكنونه الحقيقي.

يعرَّف النفاق في اللغة بأنَه إظهار الإنسان غير ما يُبطن. وأصل الكلمة من النَّفَق الذي تحفره بعض الحيوانات وتجعل له فتحتين أو أكثر فإذا هاجمها عدو ليفترسها خرجت من الجهة الأخرى (الأرنب مثلًا).

وسمي النفاق بهذا الاسم لأن صاحبه يظهر نفسه حسب الموقف الذي يقتضيه بالنسبة له أو يواجهه.
وهو ظاهرة اجتماعية عند بعض البشر يتلونون ويكونون فيه بوجهين متغايرين: دينيًا وأخلاقيًا واجتماعيًا فتكون لهم محكمتهم الخاصة في مواجهة الطرف الآخر والحكم عليه في حين لا يرون هذا في أنفسهم إطلاقًا.

ولِمَا هذه الخصلة الذميمة من آثار على الحياة الفردية والاجتماعية ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم في مواضع عديدة منها قوله:
(وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَد دَّخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ ۚ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ ) {المائدة: 61}.

تكشف الآية الكريمة ظاهرة الازدواجية النفاقية عند هؤلاء وتُنبه المسلمين إلى المنافقين حين يأتونهم يتظاهرون بالإيمان وقلوبهم يغمرها الكفر.

لقد شدَّد عليها النبي الكريم وأهل بيته في أحاديثهم الشريفة عبر ذكرها في أكثر من مورد: المنافق من إذا وعد أخلف وإذا فعل أفشى وإذا قال كذب وإذا ائتمن خان وإذا رزق طاش وإذا منع عاش {ميزان الحكمة المحمدي الريشهري ٤/541}.

وعن أبي حمزة الثمالي عن سيد العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) قال: المؤمن خلط علمه بالحلم... إلى أن يقول:
والمنافق ينهى ولا ينتهي ويأمر بما لا يأتي إذا قام في الصلاة اعترض وإذا ركع ربض وإذا سجد نقر وإذا جلس شغر يمسي وهمه الطعام وهو مفطر ويصبح وهمه النوم ولم يسهر إن حدثك كذبك وإن وعدك أخلفك وإن ائتمنته خانك وإن خالفته اغتابك . {الأمالي الشيخ الصدوق ص 582}.

في هذا النص مواصفات المنافق التي يُعرف بها فهو:
1- يخالف قوله فعله. يأمر بالخير ولا يمتثل وينهى عن الباطل ويقوم به.
2- التثاقل حين الصلاة وسرعة أدائها كما قال تعالى: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ). {النساء: 142} فهو إذا قام في الصلاة اعترض : فلا يكاد يقف قائمًا حتى يركع (أو يسجد) من سرعته. وإذا ركع ربض أي جلس. وإذا سجد نقر : نقر كنقر الغراب. وإذا جلس شغر أي فَرَغَ كل ذلك كناية عن سرعته في صلاته فلا يطمئن ولا يتفكر ولا يخشع وكأن الصلاة صخرة على ظهره يريد أن يتخلص من ثقلها!
3- همه الأكبر تناول الطعام والخلود إلى النوم.
4- الكذب حين الحديث.
5- خلف الوعد وعدم الاكتراث بالتزامه في مواعيده مع الآخرين.
6- خيانة الأمانة مالية أكانت أم غيرها.
7-الغيبة وذكر الآخرين بسوء بعد انصرافه عنهم.

النِّفاق الاجتماعي

اختلف علماء النفس والفلسفة حول مفهوم هذا المصطلح. وهناك العديد من الصفات والمكونات الموجودة في الشخص الذي يمكن اعتباره منافق اجتماعيًا.

ومن هذه المكونات الخداع أو وجود نية لخداع الآخرين خداع الذات
والتناقض بين مواقف الشخص وسلوكه سواء أكان أمام الناس أم لا هذا يندرج تحت مسمى النفاق الاجتماعي.

ولأن هناك عنصرًا أساسيًّا في الحكم المجتمعي وهو الحكم على الأشخاص أو المواقف فالعلاقة بين القوة والنفاق علاقة طردية؛ فكلما كانت لدى الفرد السيادة والقوة يكون أكثر قساوة في الحكم على غيره وأقل قساوة في الحكم على نفسه ويكون أقرب إلى النفاق في السلوك والتعامل وتقل هذه الظاهرة في الأفراد الأقل نفوذًا فهي تؤثر بشكل سلبي جدًا على المجتمع وتعمل على تفككه وإثارة الأحقاد والفتن والغيرة والحسد وغيرها من الصفات الذميمة.

النفاق مصطلح غير مرغوب فيه مرفوض بكل أشكاله وهو يؤدي إلى فقدان الأفراد بوصلة شخصيتهم الحقيقية وقوام أنفسهم وجوهرها.

إنه مرض نفسي يعتري صاحبه يجعله غير قادر على التعبير بكل صراحة عما في داخله ويسلبه القدرة على مجاراة الآخرين والتوصل لما وصلوا إليه فيصبح الأمل والنهوض وقوة الشخصية حبيسة الأنفاس الداخلية.

من الأسباب المؤدية للنفاق الاجتماعي
أ‌- ضعف الوازع الديني.
ب‌- الجهل.
ت‌- البطالة والفراغ.
ث‌- عدم رسم خطة منهجية للذات والرغبة في القفز السريع؛ لأنه في كل الأحوال مهزوز نفسيًّا بسبب معاناة ما من تربيةٍ أو ثقافةٍ أو عقدة نقص داخلية وما إلى ذلك.

وينعكس النفاق الاجتماعي على الفرد في تعاملاته وعلاقاته وتصرفاته على أرض الواقع؛ لأن نفاقه يكمن في حب ذاته ويتعداه لإبراز غايات في نفسه تفوق حدود المجاملة فيصبح النفاق في داخله أمرًا طبيعيًّا ومطلوبًا بصوره المختلفة.
من صور النفاق الاجتماعي التلوُّن في العلاقات وعدم الوضوح في المواقف.
أصبح المجتمع في الدجل والرياء والسطحية الفارغة كلها مسببات إلى التخلي عن الكثير من القيم الإنسانية النبيلة وأصبحت المجتمعات تتجسد فيها تلاشي روح المحبة بينها ان غاب الوفاء وبات النفاق أمرًا طبيعيًا مقبولًا وأصبح من يسلك طريق الحق ويتبع الصدق هو إنسان غريب شاذ عن القاعدة وبسبب هذه الظاهرة هبطت المجتمعات إلى الأسفل.

حلول ومقترحات
يمكن أن نذكر الأمور التالية التي من شأنها علاج هذا المرض:

أ- تعزيز ثقافة الوازع الديني ونشرها بين أفراد المجتمع من الحب والتسامح بين أفراده. إن الشخص المتمثل بحقيقة النِّفاق لابد أن يعلم بحقيقته المكشوفة وزيف شخصيته المتلونة.

ب- ينبغي أن تُبيَّن له سلبياته بالنصح والإرشاد حتى يكتشف حقيقة نفسه وأكاذيبه وسوء نيته ويرتدع.

ج- تجسيد الوعي حول حقيقة وخطورة النفاق الاجتماعي في إفساد الأرض سعيًّا للمصالح الذاتية فهو يؤدي إلى إضعافهم بكافة السبل المتاحة.

د- التأمل في عقوبة النفاق الأخروية. عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ آبَائِهِ(ع)قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ(ص): يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ذُو الْوَجْهَيْنِ دَالِعًا لِسَانُهُ فِي قَفَاهُ وَآخَرُ مِنْ قُدَّامِهِ يَتَلَهَّبَانِ نَارًا حَتَّى يَلْهَبَا جَسَدَهُ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: هَذَا الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا ذَا وَجْهَيْنِ وَلِسَانَيْنِ يُعْرَفُ بِذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. {ثواب الأعمال وعقاب الأعمال الشيخ الصدوق ص ٢٦٩}.

الحمد لله الذي وهبنا نور البصيرة لنفرق فيها بين الخير والشر وفي الختام لابد لنا من مجاهدة النفس وعدم استمالتها للأهواء والشهوات التي تحيط بها فإلمامنا بهذه الصفة الذميمة ومعرفتنا بها أمر ضروري حتى لا نقع في قائمة المحذورات التي نهانا الله تعالى عنها.

التعليقات 0
إضافة تعليق
مواضيع اخرى