العيش معيشة.. بقلم السيدة نرجس الخباز
14/05/2017
السيدة نرجس الخباز 

جلست على سفرة الغداء العائلية البازخة بالأطعمة الشهية محتارة أمام كل تلك الأطباق المتنوعة بين القديم والحديث وكأني أشارك في مهرجان شعبي لكني أجلس على كرسي عصري امام لافتة كتب عليها مقهى ابوخليل بدلا من قهوة ابو خليل .

جمعت سفرة عائلتي الأطباق القديمة( المجبوس) باللحم و مرقة الباذنجان المسمن ورز التمن ومطبوخ السمك وتزاحمها الأطباق الدخيلة علينا مثل الملوخية بالدجاج والمكرونة بالبشاميل ورق العنب والمسقعة وغيرها من انواع السلطات . وهنا تقف حائرا باي طبق تبدء إذ تختلط رائحة الأطباق على حاستك الشمية فلا تعلم هل تدع بطنك يطير ام يمشي ام يعوم .

حسمت الأمر وأخذت طبقا وهممت أن أسكب بعضا من التمن ( الأرز ) ومرقة الباذنجان المسمن لانها أكلتي المفضلة لكني تراجعت إذ علي أن أخفف من أكل النشويات والدهون واذا بأخي يقرب مني طبق المجبوس بلحم ويزيدني إغراءا بقوله (خيوه مره لذيذ لايفوتك ) رددت بعفوية : أشكرك اخوك المفروض أخفف من أكل الأرز وانت عليك ان تخفف أيضا من أجل صحتك. فرد مجاملة لي :كلامك عين الصواب لكني اعشق الأرز . 

بادرنا اخي السيد بنصيحة شديدة اللهجة :(أكلوا بس مافي على العيش العيش معيشة أكلوا واحمدو الله خيه اتركي عنك هلملعقة واكلي بيدك أبرك لك ) .

قبلت نصيحته وبدأت بالأكل لكن كلمته (العيش معيشة ) مازال يتردد صداها في داخلي ورحت أتساءل إذا كان الأرز في ثقافتنا هو المعيشة إذن ما أهمية الخبز؟غالبية دول الشرق الأوسط ودول أوروبا شمال أفريقيا والثقافات الهندية يرون أن رغيف الخبز هو الغذاء الأساسي للعالم أصبح الخبزاليوم ليس مجرد غذاء وقوت يومي انه يعد جزءا من ثقافة الشعوب فله أهمية ثقافية ودينية وغذائية وحتى سياسية وقد جاء في تعاليمنا الدينية ما يؤيد احترام الخبز كغذاء أساسي.يقول: الامام علي عليه السلام (أكرموا الخبز فإن الله عزوجل أنزله من بركات السماء وأخرجه من بركات الأرض …. ). ويدع النبي الأعظم صلوات الله عليه ان يبارك الله لأمته في الخبز :( اللهم بارك لنا في الخبز ولا تفرق بيننا وبينه ….)إذا كانت هذه أهمية الخبز العالمية في كل هذه الموارد ياترى فما أهميته لنا كشعب له ثقافته وتاريخه ؟

هل مازال الخبز جزء من سنّتنا وثقافتنا ام اصبح الأرز بديل عنه ؟ هل أصبح الأرز غذائنا بعد طفرة الغنى التي طالت الشعب في السنوات الأخيرة؟ 

سؤال محير فعلا لأننا لانستطيع ان نفرق ماهي ثقافتنا الغذائية مع كثرة ما نتناوله من انواع الخبز والأرز واللحوم والخضار والفواكه المستورد من الخارج . ان اختلاط المفاهيم واستيراد الثقافات الأخرى ودخول الكثير من العادات الغذائية على ثقافتنا أدت إلى أن يكون الخبز والأرز غذائين رئيسين في ثقافتنا وهنا نتجت حالة من الإسراف في النوعين . وبعد حالة الإسراف هذه تختلط المفاهيم مرة أخرى بين الواجب والمحرم وبين إسكات الضمير أمام هذا الإسراف في الطعام وبين من هناك بحاجة لكسرة خبز.و بما اننا مجتمع يغلب عليه الالتزام بالقوانين الدينية يأتي النداء سوف نأكل لأننا بحاجة إلى الطعام والباقي سوف يجمع ليطعم للحيوانات وبما أن لدينا بعض الماشية هنا وهناك علينا ان نجمع كل الخبز والأرز المتبقي من حالة الإسراف والتبذير لإطعامها أو نضطر لرميها في القمامة والذي يعد في حد ذاته عملا محرما . 

وهنا علينا التفكير في طريقة جمع هذه الكمية الكبيرة من الخبز والتي تعجز حتى الحيوانات من أكلها . نعم هنا المشكلة .سوف اكشف لكم طريقة بسيطة يستخدمها البسطاء في مجتمعي اليوم .
أمر يوميا تقريبا بأحد الأحياء في طريقي الى المجلس فكان أكثر ما يلفت انتباهي ويسوؤني منظر الخبز المنشور على الرصيف منظرا غير حضاري حيث أصبح الرصيف والشارع مرتعا للقوارض والحيوانات الضالة بانتظار أن يجمع ويحمل للماشية . 

قد يطرح البعض فكرة وجود حاويات الخبز الان في بعض المناطق والتي قام بها البعض جزاهم الله خيرا لكن هل هذه الطريقة تعيد إلى الخبز هويته أم هل سوف تقلل من عادة الإسراف في الطعام ؟ أم هل تغير هذا الواقع الذي يزداد سوءا يوما بعد يوم بالرغم من ضعف الحال وقلة المال . انا لا اقصد ان اقلل من اهمية الحاويات كحل مؤقت لحالة الإسراف التي نعيشها ولكن لأبين فقط انها لايمكن ان تكون حلا للإسراف والتبذير. في كثير من الدول الأجنبية عندما نجلس في احدى المطاعم ونطلب طعامنا علينا أن نطلب الخبز ايضا اذا كنا نرغب في ذلك ويحسب من ضمن فاتورة الطعام لايمكننا ان نرمي ولا قطعة من الخبز على طاولة الطعام بعد الانتهاء بينما في مطاعمنا اليوم يوضع الخبز على الطاولة بكميات كبيرة بالإضافة لما يوضع مع الوجبة الرئيسيّة وعندما تطلب الطعام من احدى المطاعم يوضع لك كمية من الخبز تكفي عشر أشخاص ومع كل صنف تطلبه وكأن أصحاب المطاعم يودون التخلص من كميات الخبز التي لديهم. نتسابق في جمع الطعام يوميا ونتزاحم على أبواب المخابز صباحا ومساءا وكأننا نعيش حالة الجوع والعوز ونسينا هذه الآية الكريمة التي تحدد هويتنا الدينية وتضع لنا قانون إنساني عظيم يحدد علاقتنا بالطعام و بأجسامنا التي يجب أن تحمى بالطعام لا أن تستهلك به وينتهي عمرها الافتراضي . 

قال الله تعالى ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) سورة الأعراف . لا ادعي اني أملك الحل لهذه الظاهرة ولا اجد نفسي مؤهلة لذلك وانا واحدة من الآلاف في هذا المجتمع الذي يعيش هذه الثقافة ولكني أدع نفسي اولا وأبناء مجتمعي ثانيا لمحاربة ثقافة الإسراف والجشع وان نتقي الله في نعمه . وان نعيد ثقافة (العيش معيشة ) وليس اللذة والشهوة وكما يقال في المثل ( خبز الرغد يغدا)الرفاهية لا تدوم في كل مجالات الحياة وليس فقط في الخبز . ولنعمل بقوله (نحن قوم لانأكل حتى نجوع واذا اكلنا لانشبع ). 

التعليقات 0
إضافة تعليق
مواضيع اخرى