( شي ما يشبه الرثاء ) غالية محروس المحروس
24/05/2017
شيء ما يشبه الرثاء

بقلم - بنت القطيف: غالية محروس المحروس


صباح الحياة يا نفسي القابعة خلف ذاك القبر الذي جف قبل التلاقي, حيث لا تلاقي ولا حياة بعد اليوم. مع هذا الفجر لا رغبة لي بالكتابة بل رغبة بالصمت لعله إفلاسا لغويا, فأنا امرأة لا تشفى إلا بالكتابة حيث أعتدت أن أرثي نفسي يوميا في سطور!! يظل الرثاء فسحتي حين أموت, فالكتابة عندي مقدسة اختناق حد انتهاء آخر جزئية أكسجين في رئتي, ولكن جاء المساء ليستوطن الموت روحي بصمت.

في مقالي جرح آهة صرخة وتوسل ولا تكفي صفحتي البيضاء هذه لترجمة أنفاس الموت المبعثرة, هل نخاف ونعتذر للموت أم نتركه يعبث بنا نحن البشر! وكأنني افتقدت صديقاتي فلا صباح بات يجمعنا, ولا أيامنا تبتدئ بحديثنا كما كان الماضي ولا ضحكاتهم تعوضني عن أكواب القهوة التي بت أتناولها بشراهة وكأن القهوة تهدئ من روع فقدي.
على قارعة الصفحة ألقيت بكلماتي خارج أسوار إحساسي, ومع رماد بقائي تحديت هنا الفناء, تاركة روحي للصمت للحضور للغياب للبكاء للرثاء وربما للسخرية أيضا, وعلى حافة الحياة العمر هو ارتحال في اللحظة نفسها ارتحال للمكان بالأثر نفسه, لا شيء سوى صمت ثقيل وآهات مسروقة من الوجع, هناك محاولة أن أرثي نفسي تاركة ما تبقى من أي تفاصيل لموتي, مازلت بين الخيال والتأمل أغفو أصحو وروحي تداعبني كأنني دون اعتذار لرحيلي, أكيد أن الفقد والوحشة هي التي تحكي نفسها.
أنا اليوم مع مقال النهاية نعم النهاية التي لطالما غفلنا أو تغافلنا عنها مع أننا واثقين منها , إنها اللحظات الأخيرة من عمر لعله يكون طويلا أو قصيرا, أنها اللحظات التي قال الله سبحانه وتعالى : { كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق وظن أنه الفراق},نعم إنه الفراق إنه ليس فراقا عاديا, وليست رحلة عادية وليست تجربة حرة ,إنها تجربة نادرة مع المرء ورحلة إلى عالم آخر, وفراق في غاية الألم والوجع, الله اكبر ما أعظمها من لحظات.
أتسمح لي أيها القارئ, كتبت هذا المقال قبل موعد القهوة في الرابعة فجرا, كتبته أنا في هذا المحراب الذي اعتكف فيه وأسجل صدق إحساسي و تأملاتي, و قد أضطر لارتداء كفني, فلا تستأذنوا قبل الدخول, هنا ركني الخاص فمن شاء أن يتصفّحه, أما عن رثائي فدعه لي فإنه مؤلم وما كلّ شيء يقال قابل للتصديق, ولكنني جريئة وكم أحب الصادقين, لا تنزعجوا مني أرجوكم حين أقص عليكم ما يدور بخاطري, فمعذرة لأنها قد تقترب من الوهم.
هنا كان يرقد جسد أمي الطاهر, وهنا أيضاً كنت أنا ودعوات صادقة غسلتها دموعي, سقطت دمعتي على قبر أمي وسرعان ما تغلغلت داخله, خمس سنوات مرت وجسد أمي مغيب تحت الثرى, وأنا أتوسل خروجها من القبر لأشعر بالوجع الذي يعتصر أضلع روح خرجت دمعتي منها؟!! هكذا أنا من بعدها وجه أمي لا يزال هنا يسكن كل أنحائي, أجدها أمامي كل لحظة وذاكرتي لا تعرف النسيان, أحاول الهروب لأقنع نفسي إنني بحاجة إلى نوم عميق, ولن أنام مرتاحة ورحيل أمي يوقظ أعصابي كل لحظة, هنا وهنا فقط اختلط دمعي بحبري,وأمي تنتظر من يزورها هناك وأنا أبكي فوق قبر أغلى من في الوجود فبعدها ليس لي غالي, يا الهي كيف تستطيع قدماي أن تخرجا من المقبرة, وهاهو جسدها مسجى هنا تحت التراب ولن أراه ثانية, ولقد أصبحت الحياة موحشة إلى حد الظلام, فأمامنا مساحة شائعة من القبور.
هكذا مر قرن من الزمان وأنا في صفاء نفسي لم أعرفه في حياتي الأرضية هكذا يبدوا لي, حتى شاهدت عند البعض الكثير من الكذوبات, مفارقات جعلتني أشعر بالرثاء لذاتي واشم رائحة التجاوز التي لا تزال عالقة في الهواء, ورأسي لا يريد أن ينام وكأنني ارثي نفسي رثائا غير مباشر, بعد إن خرجت روحي وبإيمان أعلنت الحزن والحداد, والأهل مع الحزن قد يعلنوا العزاء وربما هناك من سيكتب عني بعض كلمات الرثاء.
اسمحوا لي يا أعزائي القراء أن أتسلل بحياء رغم جرأة الفكرة, وأقتحم خصوصياتكم لأكتب لكم عن بعض خصوصياتي وعذري إنني أحترم خصوصيات الغير, اسمحوا لي أن أرثي لكم من علّمني نفسي, اسمحوا لي أن أرثي لكم من كانت تكتب لكم مقالاتي وتقف وراء كل سطرٍ فيها, اسمحوا لي أن أرثي لكم من كانت تمنحني الثقة التي أواصل بها حياتي, اسمحوا لي أن أرثي لكم من كانت تعطيني القدرة على الصمود كلما تكالبت عليها المتاعب, اسمحوا لي أن أرثي لكم من كانت تُلهمني ومن كانت تعلمني الصبر, اسمحوا لي أن أرثي لكم من علمتني كيف تحب القطيف وقالت لي ساعة الرحيل لقد تركت لك أرضا وعرضا لن تضلين بعده أبداً, اسمحوا لي أيها القراء أن أرثي لكم نفسي!!

ليلة أمس وأنا ارتب خزانتي, لمحت بعض هدايا صديقتي الراحلة سلوى أم ماهر رحمها الله, تلك الهدايا التي لم استخدمها بعد ولا تزال رائحة عطرها ندية, صديقتي التي رحلت قبلي فتحت لها قلبي, ولم تقل لي وداعا ولم توعدني برجوعها, أين أنت أيتها العزيزة, تلك التي كنت يوما ولا زلت صديقتي ورفيقتي إلى أين تمضي؟ أيتها السماء أيها القبر!! أيها الزمن أيها الكفن أيها النعش!! يا الهي كيف ضاقت بي الدنيا وانطفأت شمعتي, ولم يبقى من حياتي غير الذكرى وللبعض الحسرة, مادام البوق قد نفخ في أنفاسي, إذا ما أتحدث عنه كان موتا أكيدا دون وهم, و إلا كيف تسمعوا تلاوة القرآن علي, لا عجب فالموت لا يستحي من الحياة.
وها أنا أغادر الحياة, أمر غريب يبعث على الدهشة مع الوحدة والسكون والصمت والاغتراب, أنا مازلت في معزل عن الزمن عن الحياة, حيث يمر الوقت ثقيلاً وإرادة الوقت ليست معي, الوقت هنا يساوي صفر وكيف أهرب منه وأنا في القبر المحدود الضيق!!
مازلت أخشى أن يضربني أحد الملائكة, ويزيد من موتي فوق موتي, فهذا يشبه المستحيل, فقد تركت الحياة, وتركت أحزانها , وودعتها وودعت أفراحها, وأنا الآن في رحلة رحيل دائم عنكم, و كنت أحب الحياة وأعشقها, وكنت أحب الصباحيات الجميلة مع كوب قهوتي, كنت أحب السهر والكتابة وماذا يجدي الحديث الآن! مجرد ذكريات, لا يهم كثيراً أن أدلي بهذه التفاصيل, فالآن أتذكر سكرات الموت.
رباه وكأنني المح من يخلع عني ملابسي ويمددني على المغتسل, وهناك من يحملني من أقارب أو بعض الغرباء أو حتى لا احد, المهم هناك سيأخذونني محمولة على الأكتاف وأنا في نعشي على الأقل أكون قد ارتفعت قليلا عن الأرض, يا من تمد يداي ورجلاي رفقا بجسدي كي لا تتعثر بي عند تغسيلي فنور النهار لم يطلع بعد.
وأنا ملفوفة بكفني ورائحة الكافور تغلفني, وقد يسبب لي اختناق فوق اختناقي من عتمة القبر وبرودته, وكأن بيني وبين جوف القبر هنيهة أو أقل كثيرا, وقد بدئوا يهيلوا التراب علي, ومازالت روحي معلقة بمن خارج القبر,سأكون متوحدة مع العتمة والصمت والسكون اللانهائي وهنا بدأت أدرك أنني وحدي, يا الهي كأنني اسمع احد أبنائي يشير قائلا هذا قبر أمي, واسمع إحدى صديقاتي تسأل أين قبر صديقتي, وقد تضع فوقي باقة وردا أو ترش عطرا, فمازلت أسمع نحيب أختي الوحيدة, وهي تنادي علي وهذه صديقتي أسمع صوتها من بعيد تبكي, فقد حجبتها عني في اللحظة الأخيرة تلك الأعراف التي تفرق بين الأحباب, فكنت أتمني أن أراها لأقول لها أحبك.
أراني الآن وقد كنت أهرب من الغبار وأكره الأتربة , فكيف بي والتراب يواريني من كل جانب ويحيط بي, فهل أستطيع أن يكون لي رجاء عند حفار القبور , وأخبره أن عيناي تكرهان التراب ؟! ماذا يجدي هذا الرجاء ؟! لا يهم لن أشغل تفكيري حتى يتلطف حفار القبور معي.
كثيرة هي المرات التي انقلب فيها على نفسي,لأنني أعطي اهتماما لآخرين يتقنون فن الكذب والنفاق, لم أكن أدرك أن ينبغي على مسح الطيبة في قلبي, وغباء مني بأن أختلق الأعذار وأسامح, تبا لحياة يتقن فيها البعض ارتداء الأقنعة, يظهر الناس عادة عكس ما لا تعكسه المرايا بعضهم بأقنعة, أنا لا أشكو ولا أبث هما لكني تعلقت بوجع قبل موتي وكلماتي طريقي للراحة, عند قسوة الموت يحتضر الكلام, لا أطلب مديحا هنا بل ذوقا كذوقي معكم لقد انتهى عصر الصدق والوفاء حيث نعيش عصر الأقنعة, نحن نفقد الإحساس بكل شيء حتى بالموت.
أتألم و أتذكر سنوات عمري لحظة بلحظة, الفرحة والدمعة تضحك شفاهي وتدمع عيناي, وأنا أشعر بالألم يمزقني عندما أتذكر أنني راحلة تاركة كل شيء, آه ما أشد حزني! هناك من يتحدثون ويهمسون ولا يزالوا يبالغون في ذلك, وأنا أسترق السمع والبكاء ولحظات صمت من الوجل, ومع هذا وذاك الكل يتحدث حول كل شيء عن لا شيء دونما إدراك أو اكتراث بلا هيبة أمام موتي , يا سبحان الله حتى لا يبالون بعظيم الوجع لرحيلي.
لقد أصبحت نسياً منسياً لدي الكثيرين , ممن كانوا لي في الحياة يبدون وكأنهم أصدقاء وصديقات حميمين, مازلت شغوفة برؤية هؤلاء الحمقى المنافقين الذين يتحدثوا عني, ما يلفت انتباهي أن البعض يضحك خفية, ويعلن إرادة السعادة بموتي في داخله, والغريب في الأمر أن من بين المعزين من كانوا طوال حياتهم في حالة خصومة مستمرة معي دون علمي, بالرغم من أنني لم أسيء إلى أحد منهم بأي إساءة تذكر يا لهم من حمقى أغبياء مالي أراهم الآن سعداء برحيلي, ولماذا !؟ بصراحة لا أجد مبرراً أبداً وعلى الإطلاق !! وهل في الموت والفقد شماتة وتشفي ؟! فمعذرة لي ومعذرة لكم !!
لا زلت أبحث بين دهاليز نفسي عن شيء يحييني في صورة أخرى, لازلت أحاول أن ارثي الذكرى بشيء من التجدد في واقعي, لا زلت ابحث عن حرف يعيد الأمل لروحي, لا زلت أحاول أن أجد إجابة لكل هذه التساؤلات, إلى متى سوف أبقى أسيرة حماقات البعض؟ إلى متى سوف أبقى أسيرة الحيرة والذهول والوجع ؟ إلى متى سوف أبقى أسيرة عناق روحي؟ حيث كانت روحي تُحب القطيف وأهلها وتتبتل في رحابها كما يتبتل العابد في محرابه, كانت تحلم بقطيف رائع ينعم بالاستقرار والطمأنينة وبقطيف شامخ يرفل في حلل الصدق والجمال. كانت روحي تؤمن بالإنسان كأسمى مخلوقات الله.
ماذا سيخسر الإنسان لو شيد كل واحد في قلبه مسجدا, وصلى صلاة الطهر في محراب الصدق والفضيلة والإنسانية, دعونا نتسامى عن توافه الأمور, وعن كل ما يخدش نَقاءنا وطهرنا لنحترم ذاتنا وغيرنا, عندما نتحدث بعمق ونطلب بأدب, ونشكر بذوق, ونعتذر بصدق نترفع عن التفاهات والقيل والقال ونحب بصمت, ونغضب بصمت أيضا, وإذا أردنا أن نرحل لنرحل بصمت,
و في بحث لي عن الصدق اكتشفت أنه ضاع بسبب عولمة المشاعر والأحاسيس!! وكل ما ارجوه من ذلك بعض من أسمي يثار بين الشفاه, وأنا أسترق السمع لكلمة لإحساس ما عني ولكن البعض يكثر من الحديث, ولعل البعض يضحك وربما بات أحد لا يذكر أسمي, رباه أود أن أصحو من موتي وأتنهد وأصرخ منادية: وداعا أيها القلب المليء بالحنان, لا زلت متمكنة متملكة روحي أيا نفساه, وهذا هو السر في كتابتي فيما يشبه الرثاء لروحي العاشقة للحياة.

أؤمن بأن الله يعفو ويغفر ويسامح , وكنت أؤمن كذلك بأن المجتمع لا يعرف العفو أو الغفران والتسامح , ما يحزنني الآن أثناء موتي أن الكتابة لا تستطيع أن تكتبني, وإلا أن أكتب في وصيتي أن يتركوا في قبري قلمي, فربما يأتيني ملك الكتابة ويأتي علي هيئة طائر حزين, فأكتب ما تريدني الكتابة أن أكتبه .
أماه أتخيلك تبكيني وتنادين بأسمى صرخاتك, سوف أراك إذا حان رحيلي, أماه لم أعد بعد الآن من أهل الدنيا,آسفة أمي على لرحيلي المفاجئ فلم أتمكن بعد الآن من تقبيل جبينك ويديك وأنت في قبرك, آسفة أمي لم أتمكن من تلبية ندائك كي أعود إليك,ولم أكن أعلم إن جسدي يستسلم قبل روحي لأعطيت روحي قوة أكثر من جسدي.

أعتذر منك أيها القارئ الفاضل, وكأنني ألمحك تطيل البكاء حيث يعانق عيناك دمع العزاء, ليطمئن قلبك لقد استيقظت من رقدة طويلة نفضت عني غبار القبر, وما تحدثت هنا لحد الآن ما هي إلا حالة خاصة استثنائية, حيث كنت فيما مضى أراقب الحياة بعين خجولة, كنت وكان فعل ماضي والآن لا أراقب شيئا ولا يسكنني إلا الجمال, كنت فيما مضى أراني بملامح تشبهني والبعض يتمنى إن هذا الماضي يوما لم يكن!! وهكذا عزمت على ترميم ذاتي فاستهلكتها في الترميم, حيث كل المحاولات التي أجراها قلبي لعقلي لم تتجاوز مفهوم العبث, لقد أوحي إلى قلبي أن أطمئن فقد غادرت كل أطراف روحي, ومن شدة الفكرة نسيت فعلا أن أبلغ قلبي إنني وقعت في فخ الموت وعشت التجربة. يا إلهي وهل هذا فعلا شيء ما يشبه الرثاء!!! فالمعذرة منكم أيها القراء.



 
التعليقات 0
إضافة تعليق
مواضيع اخرى