القطيف موطن الذاكرة
24/09/2018
بنت القطيف: غالية المحروس

جلست على مكتبي أتأمل مئات الكتب في مكتبتي والتي تجمعت عبر الزمان والطفولة والشباب, وبدأت أقلب أفكاري علني أجد مقالا يغازل وجداني أو على الأقل يحاكي سريرتي , لا أدري ماذا أكتب عندما أكتب؟ يكفي إن دمعة بقيت عالقة بين جفوني تخشى أن تنزل فاستهزأ من نفسي, هنا لم أقصد الإنشاء أو التعبير ولكنني قصدت أن يحلق معي القارئ عاليا, و ستظل الكتابة هما يؤرقني فما أروع أن تخلق فكرة وأن تحمل هما ولكن, الأروع أن تجد من تقتسم معه ذلك الهم, أحب هذا القلق الكتابي ولا أرتاح إلا عندما أضعه على الورق وأكتبه من قلبي, وكلما أنتهي من كتابة مقالا لي تداهمني الحيرة وقد ترافقني حيرة أخرى لمقال آخر.

لقد وجدت من البداية الأنسب لمقالي هي مقولة للدكتور مصطفى السباعي : لا ينمو العقل إلا بثلاث: إدامة التفكير ومطالعة كتب المفكرين واليقظة لتجارب الحياة, وهنا أرغب دائما أن أبلل ريقي بكلمات عن القطيف وأتحدث عن هوائها وأهلها وشوارعها ودروبها وخيراتها, وينفرد بي الحنين ويسقطني صمتي فهول الحنين للماضي يذبح صوتي ويوجع قلبي, أنا أدرك بأن لكل منا فلسفته في الحياة وهكذا منذ الأزل, الإنسان وأرضه توأمان وهنا لا أتجرأ أن أغير قانون الطبيعة, تواجهني روائح الطفولة وقد أتعجب قائلة: ما لهذا الزمن يركض بنا وتلك اللحظات الجميلة تغادرنا!

سأشطب كل هدوء قلمي وسأمزق ما تبقى من سكون أوراقي, وسأمزج كل مشاعري المخملية بشفاهي الخجولة لتكون كتاباتي حارة المذاق, سأكتب صدقي وقناعاتي وأحاول بإصرار أن أقول ما يجب أن يقال وأحاول إيجاد وسيلة في تسريب أفكارا جريئة في هدوء.

كثيرا ما أسأل القطيف ماذا تريدني أن اكتب عنها ولكني سأتحدث عنها وعن أشجار الليمون والرمان وحقول اللوز والتين حينما يزهر, وعن غبار الصيف وعن أسرار القطيف في حاراتها وحكاياتها خلف نوافذها وأبوابها, وهنا أفتح قوسا لأقول لعل بعض كلماتي تلميحات فقط للقارئ,لن أتجمل وأنا أكتب عن مدينتي لأني أشعر بحزن وأنا بعيدة عن قطيف زمان, من الصعوبة بمكان أن يتجرد المرء من مدينته فالقطيف تسكن في داخلي تماما كما يسكن المحار في أعماق البحر, حيث نتصور لو لم يكن في الدنيا قطيف لقطيفنا هذا؟ ياإلهي يرتسم الصدق في خيالي وأرى الماضي في خلوتي الليلية, ليس ثمة أجمل من الوطن لنكتب عنه وله وأنا ألامس حروفي وهي تتخافق كعصافير صباحيات قطيفية, فيا قطيف دعيني أحبك أكثر ما أجملك في فجرك.

أفاق النهار في مدينتي منذ قليل, وأنا مازلت أعد كم ساعة بقيت لأحتسي قهوتي الصباحية وروح طيفي ترف من حولي, لنتمشى معا داخل الذكرى ولأطفئ النور وأضيئ ذاكرتي لتحملني إلى مدينة القطيف, دعوني أتنفس دخان الذكريات بتلك الأحاسيس كما الصباح في أعماقنا,دعوني ألبس الماضي وبفوضى إنسانة عاشقة بعمق وبصدق سواد الليل وبياض نهاره, وينفرد بي الحنين ويسقطني في أخاديد الذكرى العميقة وتتزاحم الذكريات هنا وهناك, ولا زالت تتحرك أمامي وتزدحم وتصرخ وتتأمل بإحساسي التي تمطر دهشة وحسرة, بينما تطل من خلف ذاكرتي أسئلة وأنا أسأل هنا بصعوبة من ينسى ذكريات العمر, و من يتذكر تلك اللحظات الصادقة هل هناك من يبيع ريحان الفرح في سوق الحزن وفوق أرصفة القهر؟ وتسألني بساتين النخيل عن الذي اقتلعها أو نساها وتعالى عليها؟ من يفتح الأبواب أمام الحساد والحاقدين؟ غدوت مثل الناس أحمل كل شيء جميلا من طفولتي وما عاد طيف الطهر يحملنا.

في سكون الليل المليء بالأسرار أفتح باب الذكريات التي تتسم بالحرية والبراءة والصدق وعدم المبالاة أحيانا, ّذكريات جميلة تحمل بين جوانبها أحلى الذكريات التي تختزن داخل قلبي من فوح وبوح, أشعر حينها بدمعة تهتز في عيني وأخفيها على استحياء ,تلك الذكريات التي أنثرها هنا جددت حماسي و توقف عندها الزمن, ما أجمل وأحلى الذكريات القديمة ذات الطعم الذي لا ينسى, قد أفضح بإحساسي بعض الذي لم يتجرأ بالبوح الجميل, بسيطة حياتنا من الليل وحتى بزوغ الفجر.

يسألني جيراني القدامى لماذا لا أزال أقدم لهم ابتساماتي وبساطتي كما الأمس؟ لا يزال جيراننا أعزاء وبقاء من كنا نعزهم أنقياء, حياتنا كانت هادئة نجلس وأمامنا فنجان قهوة بنكهة الدنيا, و كنا نوزع الصدق والبراءة والطهر و نغوص في بحور الحياة, ونحلق في سماء الكون والتي صنعتنا حتى نحن بأن نكون نحن, حيث أيامنا هذه تحمل قلوب العجائز بشكاوي عقيمة ودموع خفية ومن خلفها كبرياء.

لم أسأل نفسي لماذا تزدحم نفسيتي وعقليتي بكل هذه الذكريات والراحة التي استشعر بها, حين أتذكر تلك الذكريات الفارهة التي تبعث الهدوء والسكينة دون ثمن, ولست مستعدة بأن أضحي بذلك الهدوء مقابل روتين جامد حيث اعشق المرونة, وبعض الفوضى المنظمة أحيانا حتى في ذكرياتي دون أن استنكر الطفولة بطهارة قلوبنا, حيث لم نعرف حينها الحزن المعتق ولا الألم المطرز بل كانت ذكريات طفولتنا لها رائحة الوفاء دون نرجسية.

ذكرى تتلو ذكرى وفكرة تتبعها فكرة أخرى تروي حكاية, وتلك القلوب النقية التي تدس بين شرايينها كل البساطة والطهارة والعفة والتواضع المليئة بالقصص والحكايات, كنا أكثر جمالا وأكثر رقة مع انتشار الحب والاحترام بيننا وكأنها أنشودة الماضي القديم.

نما في داخلي خشوع عميق نابع من أعماقي, هامسة يا إلهي كيف لي بهكذا انسجام مع سمو القطيف وجلال الذكرى فيها و أسال نفسي, هل هناك أحلى من هذه الجنة؟ ودائما أزور الذكرى وأحج إليها صارخة بأعلى صوتي, بأنني مدانة بجريمة عشقي لماضي القطيف وحاضرها, ومن حسن حظي إنني عشت فيها وأن أروي ذكرياتي عنها حين كانت ديباجة مطرزة ولا زالت, وكم أشتهي أن ترتوي مسامع القارئ منها.

علمتني مدينتي ما كنت أعرفه إنني أحمل بين روحي دفئا خاصا, وعلمتني أيضا إن كل الأشياء تعيش فينا بجمال, وعلمتني أن لا أنكرها بل ولن أتحدث أكثر عن رحيل السنين معها, أتذكر في سماء مدينتي ليلا نجومها التي تسقط علينا كأنها حبات لؤلؤ وأخترق ببصري بياض القمر, وأتأمل الخبز العربي وأنا أتناوله, كم أتوق لشربة ماء باردة دون ثلج, وكم أشتهي أخذ حمام ساخن في احد العيون التي اندثرت, أتوق أيضا للحظة فسحة مفتوحة مع بنات الحي, أو جولة حرة في السوق البسيط قد تأخذ مني ساعتين دون شراء شيء, لكنها تمنحني شرف اشراقة وسمو ذاتي, وهذه الليلة يغادرني النوم وابتدأت الذاكرة تصدح مع رطوبة المساء.

بعد أكثر من أربعين عاما من غيابي تجرعني الحي القديم آآآه كل شيء قد تغير إلا البراءة والتواضع , لا تزال هناك نفوس جميلة بذاك الحي الذي يحمل بين طياته أحلى الذكريات والتي تختزن داخل قلبي من فرحة طواها النسيان.

وكما هو معلوم إني من مواليد القطيف, وقد حفلت سنين عمري بالبساطة في أجمل معانيها وماضي بسيط جميل دون تهميش أو نسيان, ولا زلت أتذكر الحي الذي عشت فيه واسمه حي باب الشمال, وكنت أقطن مع أسرتي في بيت متواضع دون أن يكون فيه اختلافا عن بقية بيوت الحي أو هكذا يبدو لي, فأتذكر بيتنا بأركانه وسطحه الذي اشتقت له كثيرا وعلاقتي بأهل الحي تجعلني لا أنسى كل موقف مر بي وأنا صغيرة.

في زمان صيف القطيف كنا ننام فوق السطوح, وكنت أتغزل بسماء مدينتي وهواها حيث يسرقني ليلها دون أن يأخذني النوم, قبل أن أحلق من جديد في سمائها وأستيقظ على صوت آذان الفجر, يا إلهي أحببت كل شيء في مدينتي ولا يزال ذات الحب يتربع داخلي, مشاعري حتما لن تعرف الصمت لابد لي أن أكون متطرفة في عشق القطيف, وقد أبوح لمدينتي بالكثير وقد أختصر لأصمت طويلا, ومن دون الكون أحبك أنت يا قطيف بكل ألوان اللوز والتين قد يكون لون خجلي وصمتي.

مهما طالت السنين فستبقى الذكرى حاضرة تدغدغ مشاعري وتحرك في ذاتي شيئا, لا اعتقد يوما أن هناك فجر يوم سيطلع وأنا لا أحب ويجعلني أشعر بذاتي التي لا يفهمها ولا يقدرها غيري, ومع ذلك لم تكن حياتنا سهلة كما اليوم.

ألوذ خلسة لأسامر وأداعب مدينتي بشيء من الجرأة قائلة أشعر إن الخسوف في سماء القطيف جعل القمر بلا وجه وقبل أي تعليق من القراء أبادر برد مسبق قائلة: ربما لكل قاعدة استثناء و أستميحك عذرا يا قارئي فلقد ابتعدت كثيرا عن صلب الموضوع, ولمقالي لاحقا سطور وأساطير أخرى.

صباح الذكرى والذاكرة يا قطيف الخير. ​






 
التعليقات 2
إضافة تعليق
مواضيع اخرى